سالم الكبتي: ... والمغرب مرة اخرى (1)



السادسه صباحا كنت فـێ محطة المسافرين… غادر القطار كازا بعد ساعه بالضبط . السماء مغيمه وثمة مطر عند الرحيل وكل شىْ حولى يبدو جميلا ورائعا كالعاده… هذا يوم جديد… فماذا يحمل اڵـى من هدايا؟



مررنا فـێ اتجاه الجنوب نحو مراكش بعدة محطات… الوزايس. اسطات. مشرع بن عبو. بن جرير. سيدى عبدالله. سيدى ابراهيم… تستور ياسيادى. انهم كثيرون هنا والاضرحه تبدو واضحة ولااْحد يستطيع هدمها او ازالتها حتى الان. عبر القطار الطويل بنا جبال الاطلس الكبير. تضاريس المغرب متنوعه لكنها تاْسر القلب مع العين دون اْن تدمع… البكاء لدينا هناك فقط . مازالت الغيوم فوقنا والاطلس يتبعنا. كنت اتفرج عبر النافذه… حقول القمح تبدو من بعيد والحصاد يقترب موسمه.



بعد ثلاثة ساعات من المسير والتوقف فـێ المحطات احيانا… وصلنا. هذه مراكش… المدينه الحمراء… بها صهد وحراره… الشمس مشرقه بعد المطر والمحطه مهيبه… الحركه لاتتوقف بها… المقاهى… الصحف… المحلات… البشر… النظام… والقطارات تصفر وتغدو وتروح… المحطات بهذا الشكل دنيا اخرى… عالم اخر يدهشك ويدع فمك مفتوحا عندما تتذكر ضالة مدنك… وفقرها… وكابتها. اجلس فـێ المقهى… احتسى قهوة كحله… اتبادل الحكايات مع النادل وزميلته النادله واقول لهم انا من بنغازى. ثم اْبل ريقى برشفات من الماء… هذه مراكش التى قيل باْن وراء فكرة بنائها الاميره زينب النفزاويه زوجة يوسف بن تاشفين زعيم المرابطين…وكذا مدن اخرى فـێ تلك السهوب المتراميه وكونت المغرب الاسلامى الكبير من حدوده مع مصر وحتى حدوده الاخرى مع السنغال.



ومراكش الحمراء ذات التاريخ العريق ارتبطت فـێ الذهن لدى الجميع باسم الدوله منذ فتره. عندما تقول مراكش فاْنها تسمية كامله للمغرب . هذه مراكش. اغادر المحطه… اتركها خلفى… اعبر الشوارع الجميله… المليئة بالمبانى الحمراء والاشجار الممتده عبر الطرقات… والنظافه… اجل النظافه… لقد خطط المدينه الفرنسيون اثناء الاحتلال وجعلوا اساسها وبنيتها التحتيه متناسقه… خططوا ونجحوا… والحمدلله الذى لم يبتلنا بهم فـێ بلادنا !!… رغم ان الاستعمار قبيح وبشع فـێ كل الاحوال ولكن الهم (فيه ماتختار).



انا الان فـێ طريقى اڵـى مقهى النهضه الشهير فـێ شارع محمد الخامس… ثم تهالكت عڵـى احد مقاعده… وكان المذياع يحمل صوت اسماعيل احمد واغنيته المعروفه… (اش تانى… ولاش مشيت…). كنت فـێ انتظار صديقى الشاعر الكبير عبدالرفيع جواهرى.



رغم مشاغله فـێ مكتبه الخاص بالمحاماه وصل وترك هناك ابنه هشام ليتابع العمل. تعانقنا… سررنا باللقاء… ومع القهوه والشاى المغربى تداعى الحديث وانثالت الذكريات. كان اليوم 15 مايو… يوم النكبه واحتلال فلسطين. لكن كثرة النكبات والنكسات لا توقف الحديث وتجعل من الامل فـێ الانسان الذى يملك الاراده قويا. ولد عبدالرفيع فـێ فاس عام 1944 وتعلم بها وحين اخبرته بالمثل القائل… من لم يتزوج من فاس فهو عازب. ضحكنا معا . ثم التحق بالاذاعة المغربيه فـێ الرباط عام 1960. كانت الاذاعه قد اعلنت عن حاجتها لمذيعين.. تقدم عدد لاباْس به لامتحان عقد لهذا الغرض نجح منهم ثلاثه… كان هو واحدا منه وعندما اعلنت النتيجه تبين ان عمره ستة عشر سنه… قانون العمل يمنع تعينه… ماالحل ؟ اضطر والده اڵـى زيادة عمره سنتين… صار (18 سنه) واضحى مذيعا منذ ذلك العام اڵـى ديسمبر 1970 (انا شخصيا احب هذا الشهر وهذا العام.. ولاادرى لماذا ؟!)حيث اتجه اڵـى المحاماه . كان اثناء عمله مذيعا يواصل دراسته بالحقوق فـێ جامعة محمد الخامس التى تخرج فيها سنة 1968 واشار باْن الكثير من طلاب ليبيا [libya] والخليج العربى ضمتهم دفعته . هنا تذكرت الجمع بين الاذاعه والقانون (كالجمع بين الضرتين)… تذكرت محمد مصطفى رمضان المذيع الشهير وخريج حقوق محمد الخامس… وفتحى بوهادى المذيع فـێ بنــغازى [Benghazi] وخريج حقوق دمشق . المحاماة وان يكون المرء مذيعا… كلاهما موهبه رائعه. كان قارئا رئيسا لنشرات الاخبار وعندما تاْسس التلفزيون المغربى صار مذيعا لنشراته فيما انتج وقدم العديد من البرامج الثقافيه والمسابقات. ولم يجر اية لقاءات او مقابلات او حوارات مع مسؤولين فـێ الدوله او من ضيوفها. (ناْيت بنفسى عن ذلك) قال لى عبر ارتشافنا للقهوه والشاى المغربى المعطر بالنعناع العبدى.



كان مناضلا معروفا نشط فـێ اتحاد القوات الشعبيه الذى اسسه بن بركه ثم فـێ الاتحاد الاشتراكى والتزم باليسار والنضال وتعاطف مع القضايا الانسانيه العادله فـێ العالم واْدرك بايمانه العميق لروح الاسلام وجوهره باْنه حريه وانطلاق وفكر عظيم وعلم وعمل قولبه المتزمتون والمسيئون اليه… وتلك مصيبه !ومع ذكرى النكبه… اتفقنا عڵـى ان النكبه العربيه مستمره.



شمس مراكش تسقط خيوطها اللاهبه عبر الزجاج… ويمر العابرون . عجائز وشباب وصبايا… جلابيات واحذيه مغربيه وطرابيش وازياء اوروبيه وشورتات قصيره… وتضوع رائحة القهوه والشاى. ويستمر الحكى… الجانب المهم فـێ عبدالرفيع انه شاعر كبير… فهو ناظم قصيدة (القمر الاحمر). كتبها سنة 1962 واداها عبدالهادى بلخياط سنة 1964… ونجحت عڵـى المستويين المحلى والخارجى. ثم ادى له اغنية شهيره هى (ميعاد)وهى اسباب انطلاقه وشهرته فـێ المغرب والعالم. (الان يااخى سالم تنكر بالخياط لفنه وندم عڵـى رحلته الفنيه… مات بالخياط القديم وصار ملتحيا وضمن جماعة التبليغ والدعوه. ذلك لايهم. لكن متى تعارض الاسلام مع الذوق والفن الجميل؟). اصدر عدة دواوين. كتب بصحف المغرب عامودا عنوانه (نافذه)كل يوم اربعاء. كان مثار اعجاب القراء وكان عدد الاربعاء ينفذ بسرعه وتذكرت هنا مقالة الصادق النيهوم فـێ العدد الاسبوعى من الحقيقه كل يوم سبت… ونفاذه فـێ رمشة عين. كان عمود الجواهرى كتابة ساخره ونقد للواقع وكان هناك قمع شديد وارهاب وقت ان كان ادريس البصرى وزيرا للداخليه وقد استدعى للتحقيق اكثر من مره بسبب العمود الساخر !!



حدثنى بود عن صديقه الملحن الليبى عڵـى ماهر… وحملنى التحيه اليه. كان قد لحن احدى قصائده (رساله اڵـى وطنى). كان قد زار ليبيا [libya] اْيام رئاسته لاتحاد كتاب المغرب سنة 1980.. (هالنى عسف القذافى وسفهه والتاْميم والاجراءات الاقتصاديه المضحكه… وكتبت عنه بعد عودتى كثيرا. القذافى كان كارثه بمعنى الكلمه عڵـى الجميع)قال لى بمراره… (والتغيير رائع فـێ ليبيا [libya] ورغم الصعوبات ستصل ليبيا [libya] اڵـى ماتريد بحكم امكانياتها وموقعها ووجود كفاءاتها الكثيره التى ينبغى ان تمنح لها الفرصه الحقيقيه لخدمة بلادها… ولدى سؤال ياسالم… لماذا اعلنتم فـێ خطاب تحريركم… مثنى وثلاث ورباع).. وضحكنا بمراره اكثر من غيرها.



والشمس والناس… والجمال يزين المكان… وكذا خارجه… ثم اشار باْن العلم مقرون بالعمل فـێ الاسلام وفى النهايه فاْن المال يظل (وسخ دنيا)ولكن مايحدث الان عڵـى طول المنطقه هو العكس… زمان فـێ فاس مدينتى اذكر ان البسطاء وهم اميون يجلسون فـێ حلقات الدروس فـێ المساجد ويلتقطون المعرفه من افواه الفقهاء… كانوا رائعين رغم اميتهم… والان الامر يختلف. فـێ مراكش يقيم منذ عام 1971 ونال الدكتوراه فـێ القانون الدستورى وكان نائبا فـێ البرلمان المغربى وايضا رئيسا للمجلس المحلى فـێ مراكش (قلت المجلس المحلى)ثم ترك هذه الامور. كان يغضب ويواجه بكل صلابه ويكسر كل ما امامه فـێ سبيل قولة الحق… ثم ترك وانسحب !



اهتم بالموروث الشعبى… الاغانى والاساطير والحكايات والامثال والشعر العامى. واكتشف الالفاظ الفصيحه فـێ اللهجه المغربيه واستقى من ذلك التراث واستفاد منه واسقطه… ثم معا فـێ جولة اڵـى عالم ساحة الفناء. هذه هى الساحه… مئذنة الكتبيه… المقاهى المعلقه… المطاعم… السحره… القرود… الثعابين… التحف… السواح… الفنون… باعة العصائر… الملابس التقليديه… الاسواق العامره… عالم يضج بالحركه ويتقد بالحياه . كنا نسير متجاورين ونحكى ونبتسم ثم نحتسى كاْسين من عصير البرتقال الطازج. الساحه تاريخ يتحرك… وجغرافيا تمور… وارنو اڵـى كل المرئيات… والجمال لايفارقنا… كان عبدالرفيع ماْخوذا بمراكش وسيرتها فاْخذت بها معه. انجز كتابا عن ساحة الفناء واْشار باْن الكلمه تعنى الفناء اى النهايه او البراح او المتسع او الساحه غير ان الاجمل فـێ ذلك كله بعد هذه المترادفات تخريجه الخاص للكلمه نحته له… (ياسالم فـێ هذه الساحه تفنى كل الصفات وكل الطبقات ويلتقى كل البشر ويذوبون بها. ليس ثمة فرق!!)ويعجبنى ذلك جدا. ونغوص فـێ الازقه وسط الطرابيش والجلالييب ويلمع الذهب فـێ الواجهات… والحسن الذى يسير فـێ كل اتجاه حولنا… وامامنا… ونكاد نفنى فيه بالكامل ثم ندخل اڵـى مطعم شعبى عتيق… وتصل رائحة الشواء ونتناول الاكله المشهوره (طنجيه).. ونحمد الله… ونتبعها باحاديث وشاى وماء.



نعرج عڵـى مكتبه فـێ المدينة العتيقه… نلتقى هشام ابنه… نلتقط صورا… يكتب لى بخط يده جزءا من القمر الاحمر… يهدينى دواوينه وكتبه… واشعر بالامتنان… هذا رجل من طراز اخر. انسان ومثقف وشاعر افخر به ضمن اصدقائى… ولااْنساه مطلقا. ثم يودعنى واودعه.



اجلس فـێ مقهى المحطه انتظارا لعودة القطار اڵـى كازا . واْلاحظ ان اغلب النساء يشكلن غالبية من يقود الدرجات العاديه والناريه فـێ ظاهرة يومية لاتنقطع واعلم باْن من تدير مراكش فـێ منصب عمدتها سيده ومعها ثلاث اخريات يتراْسن مجالس منتخبه بالمدينه… واربط التاريخ ببعضه حتى زوجة بن تاشفين… واتذكر النساء فـێ بلادى… ثم يواصل اسماعيل احمد… (اش تانى.. ولاش امشيت… غير نظره من عيونه… باش بلانى…).. ويغادر القطار.


سالم الكبتي

 





مع الاستاذ عبدالرفيع جواهرى




الفنان عبدالهادى بلخياط