عبدالفتاح الحميدي: زيدان حبيب الجميع



يتفق الجميع أن المشهد الليبي شديد التعقيد وأنه ملئ بالمفاجآت اڵـتي قد يصل البعض منها إڵـى حجم الكوارث. كما لا يمكن لأحد في ظل هذه الظروف أن يدعي أنه قادر عڵـى وصف العلاج الشافي الذي يضمن لليبيا الخروج من مآزقها وأزماتها بسلام وسلاسة مشابهة لضغطة زر، لكن كل ذلك لا يعفي الذين تقدموا الصفوف وأخذوا المسئولية عڵـى عاتقهم مخيرين غير مجبرين من الاستعداد لتحمل تبعات فشلهم في معالجة هذه المشاكل المعقدة.



عندما تقدم السيد علي محمد زيدان لرئاسة الحكومة، بعد تجربة السيد عبدالرحيم الكيب المليئة بالإحباط، لم يطلب منه أحد أن يحول ليبيا [libya] إڵـى واحة للديمقراطية ذات تقاليد وأعراف مستقرة يسود فيها حكم القانون ويأخذ فيها كل ذي حق حقه ، ويشعر فيها المواطنون أنهم متساوون حقوقا وواجبات. كان الجميع بما فيهم أعضاء المؤتمر الوطني يأملون من رئيس الوزراء الجديد أن يعمل عڵـى أن تعود الأمور إڵـى نصابها تدريجيا وفي فترة معقولة، وأن تتلاشى تعاسة المواطن وبؤسه الذي فجر ثورة 17 فبراير بأقل التكاليف الممكنة، وهو ما وعد به السيد زيدان تصريحا وتلميحا. وعندما وقف أمام الثوار ليقول لهم بعبارة حازمة بأنه لا يعتبرهم أكثر من شريحة من شرائح الشعب الليبي، وأنه يحترم رأيهم بذات القدر الذي يحترم فيه رأي الشرائح الأخرى، عندما فعل ذلك استبشر الليبيون خيرا، ورفع ذلك مقام زيدان عاليا.



بعد أن تولى السيد زيدان الوزارة باشر مقاربته للمشاكل والمعضلات اڵـتي تنتظره، فوجد أنها شديدة السخونة إڵـى الدرجة اڵـتي يمكن أن تحرق أصابعه وحكومته معه، وكغيره من الأذكياء قلب الموضوع جيدا ليجد أن أفضل مسلك يسلكه حيال هذه الاستحقاقات المتناقضة والمتعارضة هو أن يكون حبيب الجميع. التفت زيدان يمنة ويسرى وأمعن النظر في عملية استكشافية للاعبين الرئيسيين في المشهد الليبي، وأستطاع أن يتعرف عڵـى مراكز القوى التالية: مجموعات المسلحين، مجموعات الإسلام السياسي، مجموعات المدن الوصية عڵـى الثورة، مجموعات الفيدراليين والجهويين.  وقرر بغير عناء أن يتودد لهم جميعا ويعمل عڵـى ديمومة هذه المودة ما ستطاع إڵـى ذلك سبيلا، آملا أن يساعد هذا الأسلوب في تبريد المشاكل شديدة السخونة فيتمكن بعد ذلك من حلحلتها.



المسلحون هم الفئة اڵـتي تملك القوى الحقيقية عڵـى الأرض، وفي غياب مفجع لأي وجود للجيش والشرطة لا يمكن لأي عاقل أن يمارس معهم أي نوع من العبث حتى عڵـى سبيل المزاح، خصوصا وأنهم قد اظهروا للسيد زيدان مدى استعدادهم للتصرفات الطائشة عندما اختطفوا مدير مكتبه لعشرة أيام، واشترطوا عليه مقابل إطلاق سراحه أن يلبي قائمة سرية بالمطالب، وفوق ذلك أن يبلغ ريقه ولا ينبس ببنت شفة، وهو ما فعله بكل دقة وأمانة. المسلحون اظهروا له رعونتهم في مناسبات عديدة أخرى منها حصار مقره، وحصار المؤتمر الوطني وإذلال أعضائه رغم قرار المؤتمر بمنع التظاهر إلا بإذن، وكان حصار الوزارات في صولة العزل السياسي عنوانا للمدى الذي يمكن أن يذهب إليه هولاء المجانين. استعراضات القوة هذه جعلت السيد زيدان يراقب كلماته جيدا ويبالغ في تملق هذه الجماعات. في كل مناسبة يظهر فيها في وسائل الإعلام كان يردد عبارته المحنطة: نحن لا نشك في وطنية الثوار ولهم كل الحقوق علينا ونفتخر بهم دائما، رغم علمه المسبق أن الثوار الحقيقيين قد عادوا إڵـى أعمالهم ولا مجال لاعتبار الربع مليون مسلح، الذين تدفع لهم ميزانية الدولة مبالغ خيالية تقدر بالمليارات تكفي لحل مختنقات البنية التحتية، من الثوار إلا أذا اعتبرنا طلاب الابتدائي أعضاء في اللجان الثورية أيام النظام البائد. عندما أساء هولاء المسلحون لأهل بنغازي وسفكوا دماء ما يقارب الأربعين شابا من شبابها لم يستطع السيد زيدان التخلي عن مودته واصفا الدروع اڵـتي أجرمت في حق المواطنين بأنها جزء من الثورة وانه لا يزال يرحب بعناصر هذه الدروع للالتحاق بالجيش والشرطة بدل أن يحيل عناصرها مباشرة إڵـى القضاء.



الفئة الثانية اڵـتي ترتعد فرائص زيدان بسماع عطسها هي فئة الإسلام السياسي بكافة أطيافه وألوانه المتناقضة. توقير السيد زيدان لفضيلة المفتي يتجاوز حدود الكياسة إڵـى نطاق المسكنة والخشية؛ فما أن يبدي فضيلته رأيا أو فتوى حتى يسارع السيد زيدان إڵـى التعبير عن أسمى آيات التبجيل والاحترام للحبر الأعظم.. ! ليس هذا فحسب بل ويؤكد في كل مناسبة لأصحاب اللحي الشعتاء أنه مسلم يكره العلمانية والليبرالية والمدنية. ولا بأس لديه في هذا السبيل أن يتودد إڵـى تشكيلاتهم المسلحة مثل أنصار الشريعة ورأفالله السحاتي بالمرتبات والمهايا ويتجاهل بإصرار ما يفعلونه بالمقامات والأضرحة التاريخية وحتى مقابر الناس العادية من تهديم واستباحة، ويتجاهل أيضا ما يفرضونه من واقع الإمارة الخارجة عن الدولة الليبية في درنة. أتباع الإسلام السياسي في المؤتمر الوطني لا يملون من تكرار اسطوانة تطبيق شرع الله المشروخة والسيد زيدان لا يتحفظ في أي موضوع قدر تحفظه عن الخوض في المسائل الدينية إڵـى الدرجة اڵـتي يقفل فيها أي نقاش مع وسائل الإعلام أو مع بعض مساعديه خشية أن يتسرب شيء يحسب عليه فيثير له المشاكل مع مندوبي الله في الأرض.



الفئة الثالثة هي فئة الأوصياء عڵـى الثورة وتحديدا مجموعات الضغط من انتهازيي مدينتي مصراته والزنتان الذين باتوا عڵـى يقين تام أنهم يملكون الثورة وأنهم الأوصياء الحقيقيون عليها ومن حقهم أن يتمتعوا بميزات تختلف عن ما يمكن أن يحضى به بقية الليبيين؛ فبحجم ما يتلقاه السيد زيدان من تهديدات مبطنة أو صريحة من هؤلاء أو أولئك تكون مودته وتملقه لهم. وأول ما يلاحظه المراقب من تعابير المودة هو عدد الوزراء في حكومته المنتمين لهاتين المدينتين؛ فالوزراء المنتمين لمدينة مصراته مثلا أكثر عددا من اقرأنهم المنتمين لمدينة طرابلس، أما الزنتان فتساهم بوزيرين رغم أنها لا تشكل سكانيا شارع من شوارع طرابلس. للمدن المالكة للثورة نصيب الأسد في مخصصات مجالسها المحلية وفي إعادة الأعمار والمشاريع الجديدة ويكفي أن ما منح لمدينة مصراته حتى الآن يتجاوز أضعاف ما منح لمدينة سرت رغم أن دمار الأخيرة لا يقاس بدمار الأولي. مودته لمدينة مصراته جعلته ينسى أن هناك مشكلة وطنية اسمها تاورغاء وتملقه للزنتان أنساه مشكلة وطنية أخرى اسمها العوينية. هاتان المشكلتان كان يجب حلهما وفق اشتراطات العدالة وحكم القانون، وعندما وضعه أهل تاورغاء في موقف حرج، لم يجد بدا من أن يطلب إليهم التريث ويعدهم بمناطق شتات مريحة، تمشيا مع سياسته في المودة والعشق للقوي.



الفيدراليون والجهويون فئة أخرى من الفئات اڵـتي يخشاها زيدان وإن بدرجة تتناسب مع حجم ما يبذلونه عليه من ضغوط، فرغم أن أغلب سكان ليبيا [libya] بما فيهم أبناء الشرق يعبرون عن مقتهم واشمئزازهم للمطالب الجهوية والمناطقية إلا أن السيد زيدان يختار الصمت المطبق حيال هذه النزعات، وإذا كان له لابد أن يتكلم فلا يحيد عن لغة المودة والمحبة مشيرا دائما إڵـى أنها وجهات نظر تستحق الاحترام.



استراتيجية محبة الجميع أملت عڵـى السيد زيدان استعمال لغة ضبابية مليئة بالغموض والعموميات في كل تصريحاته إڵـى الدرجة اڵـتي لا يستطيع فيها أي محلل أن يخرج بأي معنى مفيد منها، وتطابقا مع القاعدة المنطقية اڵـتي تقول "الإفراط في كل شي يؤدي إڵـى نتائج عكسية" ظهرت النتائج الأولية للإفراط في تودد السيد زيدان إڵـى كل الأطراف. شيئا فشيئاً أخذت المودة تفقد مفعولها، والليبيون يطالبون بإلحاح بظهور نتائج ملموسة عڵـى الأرض وحالة احتقانهم تزداد يوما بعد يوم. وكلما زاد الاحتقان كلما زاد السيد زيدان في جرعة المودة للجميع وبدورها فقدت المودة مفعولها، في عملية مشابهة للعلاج بالكورتيزون! وأصبح زيدان مع الوقت حبيب الجميع الذي لا يحترمه الجميع..!



عبدالفتاح الحميدي

 


المقال التالي المقال السابق
لا تعليقات
إضافة تعليق
رابط التعليق