هزيمة المؤتمر .. وليست هزيمة الشعب

ما حدث في المؤتمر الوطني العام بخصوص إقرار قانون العزل السياسي، وما رشح من معلومات حول الملابسات اڵـتي أحاطت بهذا القانون، وما اكتنفها من ممارسات، لا أجد لها وصفاً سوى أنها ممارسات إرهاب وترويع وتهديد، تعني بالنسبة لي شيئا واحداً هو أن المؤتمر الوطني قد اتخذ قراره بالتصويت عڵـى القانون تحت تهديد السلاح الذي كان يحاصر مؤسسات الدولة والتوابيت اڵـتي كانت تحاصر مقر المؤتمر نفسه. وتبني أسلوب التصويت العلني برفع الأيدي وذكر الأسماء هو طعنة مباشرة في حرية الرأي اڵـتي لا يكفلها إلا أسلوب الاقتراع السري، وذلك أن أعضاء المؤتمر كانوا يمارسون حق التصويت، وهم تحت تهديد التخوين والتشكيك في الوطنية، من قبل تلك الجماعة أو الجماعات اڵـتي كانت تطالب بإقرار قانون العزل، وعبرت صراحة عن إصرارها عڵـى أن يكون التصويت عڵـى القانون علنياً، كي يعرفوا كل من صوت ضد القانون، فيضعون اسمه عڵـى قائمة التخوين، وربما قائمة الانتقام والتصفية.


ولقد عبرت عن وجهة نظري في هذا الأمر، وقلت إن من أبسط مبادئ الحرية رفض أي شيء يتم بالإكراه والضغط والإرهاب.. وقلت إننا تعلمنا أن شريعتنا الإسلامية السمحاء، شريعة الحرية والعدل، وتعلمنا أن كل الشرائع والقوانين لا تعترف مطلقا بأي أمر يتم بالإكراه، لأن الإكراه يعني سلب الإرادة الحرة، وما لا يتم بإرادة المرء الحرة، لا تعترف به الشريعة، ولا تعترف به الشرائع والقوانين.


وإني لا أقبل مطلقاً ما يجادل به البعض من أن القانون لم يقر تحت التهديد، وقد ذهلت لما سمعت الناطق الرسمي باسم المؤتمر وهو يؤكد أن أعضاء المؤتمر قد صوتوا بمطلق حريتهم.. فهذا بكل بساطة غير صحيح، لأنهم صوتوا وكانت السيارات المسلحة بمدافع الميم طاء والأفراد المسلحون بالبنادق وغيرها لا تزال تحاصر عدداً من وزارات الدولة، وقد صوتوا والأفراد المسلحون بالتوابيت يحاصرون مقر المؤتمر نفسه، وكانوا يتابعون ويدونون في قوائمهم السوداء كل من يصوت ضد القانون، كي يرصدوه ويلاحقوه بهذه (التهمة).


ولقد أسفت لما حدث أشد الأسف، واعتبرت أن ما حدث يعد هزيمة نكراء للمؤتمر الوطني، وطعناً في رهاننا عليه أن يمثل إرادة الليبيين الحرة، فقد هزم المؤتمر أمام جحافل الإرهاب والتهديد، وأجبر أعضاؤه عڵـى التصويت بالموافقة، وكنت تمنيت لو أنهم اشترطوا عڵـى الأقل أن يفك الحصار عن مؤسسات الدولة قبل أن يباشروا التصويت، وتمنيت كذلك لو أن التصويت كان بأسلوب الاقتراع السري، حتى يعبر الأعضاء عن إرادتهم وقرارهم بحرية تامة، ولا يخشى أحدهم أن يعرف الآخرون ما كان قراره، بالموافقة أو عدم الموافقة، ولا يقع من ثم تحت ضغط التهديد والترويع والاتهام.


ومع ذلك فإني أقول إن ما حدث يمثل هزيمة المؤتمر الوطني، ولكنه لا يمثل هزيمة الشعب، فقد أثبت الشعب أنه لا يزال حياً، وأن إرادته الحرة، اڵـتي اكتسبها بفضل دماء الشهداء وبفضل التضحيات الجسام، سوف تظل أقوى من أي محاولات لإعادته من جديد إڵـى زمن الاستبداد والدكتاتورية، وزمن التهديد والإرهاب المادي والمعنوي. وما عليه إلا أن يتعلم كيف ينظم صفوفه، وأن يرشّد حركته، عڵـى النحو الذي يمكنه من إثبات وجوده وحضوره في معترك السياسة وساحات العمل المدني الديمقراطي.


وإني لا أرى سبيلا أمام القوى المؤمنة بالديمقراطية والحرية إلا المضي قدما في تأطير حركتها وتفعيلها من خلال منظمات المجتمع المدني والأحزاب السياسية.


وهنا أجدني مضطراً لتكرار ما نبهت إليه سابقاً من خطورة الانزلاق إڵـى هذه النغمة اڵـتي تدين الأحزاب السياسية، وتحملها، من حيث هي أحزاب، مسؤولية التدني في مستوى الأداء من خلال ما يظهر في المؤتمر الوطني، من خلال تحويل الأحزاب الممثلة في المؤتمر كل حراكهم إڵـى تجاذب وتصارع من أجل تغليب مصلحة الحزب، وإلى تنافس، ليس دائماً شريفاً، من أجل الحصول عڵـى المغانم والمكاسب، وتكالب عڵـى المناصب والوظائف وغير ذلك.


لقد أدى هذا كله إڵـى أن تتكون لدى الناس، وهم معذورون في ذلك كل العذر، فكرة سلبية عن الأحزاب السياسية، من جهة أنها إنما تسعى لتحقيق مصالحها الحزبية الضيقة، ولو عڵـى حساب مصلحة الوطن العليا. وقد قلت إني أخشى أن يكون ذلك عودة إڵـى ثقافة القذافي اڵـتي رسخ بها نظامه الاستبدادي القمعي، وهي اڵـتي لخصها في مقولات (الحزبية إجهاض للديمقراطية) و(من تحزب خان). وحمّلت الأحزاب السياسية، ولا سيما غير الممثلة في المؤتمر الوطني، مسؤولية أن تفعل ما بوسعها لإثبات خطأ هذه الفكرة وهذا الحكم، من خلال برامجها السياسية، وحركتها في المجتمع، وتواصلها مع الناس وحاجاتهم، وأن تفعل ما يقنع الناس بأن لديها رؤية لإصلاح الأوضاع وتنمية الحياة في مختلف مجالاتها، وأن لديها حلولاً لما يعانيه المجتمع والدولة من مشاكل وما يواجهانه من استحقاقات البناء والتنمية والتطوير.


إن عڵـى الأحزاب أن تثبت أنها لا تسعى إڵـى السلطة، أو أنها لا تسعى إڵـى السلطة من أجل التمتع بالهيمنة والتسلط عڵـى المجتمع، أو من أجل تحقيق منافع ومصالح لأفرادها أو لمؤيديها، ولكنها تسعى إڵـى السلطة كي تكون في الموقع الذي يمكنها من تنفيذ برامجها، وتطبيق رؤاها لإصلاح الأوضاع وتنمية البلاد.


وعلينا أن نثبت أن هزيمة المؤتمر الوطني في مواجهة العنف والإرهاب والسلاح، لا تعني هزيمة الشعب وكسر إرادته في بناء دولة الحرية والديمقراطية، فهذه الإرادة اڵـتي تحررت لا يمكن أن (تعود للقيود) مرة أخرى.



هزيمة المؤتمر .. وليست هزيمة الشعب