المشاركات

د. محمود موسى: التجربة الدستورية الليبية في العصر الحديث 71

ebn benghazi


التجربة الدستورية الليبية في العصر الحديث 71

العوامل اڵـتي أطاحت بحكومة كعبار



أن الأمر الذي لا شك فيه أن حكومة السيد عبد المجيد كعبار في معالجتها للمسألة المثارة في البرلمان بشأن عطاء مشروع إنشاء وتعبيد طريق فزان، وهي المسألة اڵـتي شغلت الرأي العام، لم تقم بأي خطوة عملية لمواجهة الاتهامات المنسوبة إليها، ولم تدافع عن نفسها بطريقة إيجابية ملموسة، بل أنها التزمت الصمت، وكأن الأمر لا يعنيها مباشرة!



بل والأكثر من ذلك أنها وقعت في أخطاء تعتبر جسيمة، أثرت سلبا في موقفها، وأضعفته شعبيا وبرلمانيا عندما أرادت معالجة المسألة بطريقة غير مباشرة، ودون مجابهة الأسباب الواقعية اڵـتي دعت إڵـى عقد الجلسة الطارئة للبرلمان، وهو الأمر الذي أثار الشكوك حولها، ودعم حملة المعارضة ضدها وساعد بشكل كبير المناوئين لها، رغم أنها كانت تدرك أن موقفها كان هو الصحيح والصائب، وأن مسألة طريق فزان، إنما كانت بمثابة ذريعة لكل ما تم اتخاذه ضدها، ولم يكن الهدف الأساسي لأصحاب تلك الحملات هو ذلك الهدف المعلن عنه والذي يتعلق بحماية المال العام والحرص عڵـى المصلحة العامة.



ولهذا فإن مشروع فزان لم يكن هو السبب المباشر أو الفعال الذي أدى إڵـى الإطاحة بحكومة كعبار، وإنما اجتمعت أسباب أخرى وتداخلت عوامل كثيرة أدت في النهاية إڵـى وقوع تلك النتيجة.



وواقع الأمر أن هناك أسبابا وظروفا عديدة ومختلفة اجتمعت وساهمت في الإطاحة بحكومة السيد كعبار، ولم يكن مشروع طريق فزان بالسبب الفعال أو العامل الأقوى الذي دفع البرلمان إڵـى خوض حملته العنيفة ضد الحكومة.



فما هي هذه العوامل والأسباب اڵـتي أطاحت بحكومة كعبار؟



هناك عوامل عديدة تداخلت مع مشروع طريق فزان وساهمت بالتالي في نجاح حملة المعارضة ضد الحكومة، وبعض هذه العوامل منفصلة ومنعزلة بصورة كلية عن عطاء مشروع طريق فزان، وليس بينها وبينه أي جامع أو صلة.



ولعل أبرز العوامل والظروف اڵـتي أثرت سلبا في موقف الحكومة، وساهمت بشكل مباشر في إصرار البرلمان عڵـى الاقتراع عڵـى سحب الثقة منها تتمثل في الآتي:



أولا: خطاب الملك الذي عرف بخطاب "قد بلغ السيل الزبى".



لعل أحد أهم هذه العوامل اڵـتي ساعدت في تهيئة الظروف لحملة المعارضة وبلوغها مرماها



ذلك الخطاب أو المنشور الذي أصدره الملك سنة 1960 ووجهه إڵـى وزراء الحكومة الاتحادية والولاة والمتصرفين وكل مسؤولي الدولة، وكان ذلك قبل أن تثار قضية مشروع طريق فزان بفترة وجيزة، ومن ثم قبل قيام الحملة البرلمانية ضد الحكومة، وهو الخطاب الذي عرف عڵـى نطاق واسع بخطاب أو منشور "قد بلغ السيل الزبى".



وكان الملك الراحل  قد وجه خطابا  أو منشورا سريا للوزراء والولاة والمسؤولين في الدولة والحكومة الاتحادية والولايات متضمنا الإشارة إڵـى شيوع الفساد والرشوة والمحسوبية في مختلف المرافق والأجهزة، ووجوب مقاومة هذه الآفات اڵـتي تهدد كيان الدولة، وكان هذا الخطاب  من أهم الظروف والعوامل المنفصلة عن مشروع طريق فزان، والتي ساهمت بدرجة  كبيرة وبدون قصد في قيام المعارضة البرلمانية بحملتها ضد حكومة السيد عبد المجيد كعبار، إذ جاءت هذه الحملة في ضوء ما تضمنه الخطاب من دعوة صريحة وحازمة صادرة من الملك لمحاربة الفساد والرشوة والمحسوبية في أجهزة الحكومة.



ومما ورد في هذا الخطاب ".. أنه قد بلغ السيل الزبى، وما يصم الأذان من سوء سيرة المسؤولين في الدولة من أخذ الرشوة سرا وعلانية، والمحسوبية القاضيتين عڵـى كيان الدولة وحسن سمعتها في الداخل والخارج، مع تبذير أموالها سرا وعلانية، وقد قال تبارك وتعالى "ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إڵـى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون ".



وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان".



واختتم الملك خطابه بقوله "وأنني بنعمة الله وقدرته، سوف أغيره بيدي إن شاء الله ولن تأخذني في الله ولا في طهارة سمعة بلادي لومة لائم والسلام".



وقد جرى توزيع هذا الخطاب في بداية الأمر بطريقة سرية عڵـى الوزراء والولاة والرؤساء، لكن سرعان ما انتشر أمره  وشاع مضمونه، فزالت عنه سريته، وقد نشرت الصحف بعض محتوياته أولا، ثم نشرت النص كاملا بعد ذلك (طرابلس الغرب 26 يونيو 1960).



وقد عمت البلاد  حالة من الرضى، لأن الملك لم يكن غافلا عن تدهور الإدارة، لكنه لم يتخذ أي خطوة عملية مباشرة ضد المسؤولين عن ذلك التدهور، اعتمادا منه عڵـى الحكومة وعلى الأجهزة الرقابية والقضائية.



على أن أهمية الخطاب لم تكمن فيما ورد فيه من معاني، أو في تأثيره المباشر عڵـى المسؤولين الرسميين، بل أنها شجعت خصوم الحكومة سواء في البرلمان أو حتى خارجه عڵـى النيل من رجال الحكم الذين أخفقوا في الاضطلاع بمسؤولياتهم وواجباتهم تجاه البلاد.



ويمكن القول إن هذا الخطاب الملكي المنشور كان بمثابة تحريض لكل ليبي لمحاربة الفساد والمحسوبية والرشوة، وهو الأمر الذي شجع في الوقت نفسه، القيام بأي حملة ضد الحكومة متى اتخذت هذه الحملة، مظهر أو صورة محاربة الرشوة والفساد والمحسوبية، ومن ثم هيأ  الخطاب العوامل والأسباب اڵـتي تكفل نجاح مثل تلك الحملة، فكل تشكيك أو طعن في الحكومة أو في أي مؤسسة من مؤسسات الدولة كان أمرا مستحبا ومحمودا في تلك الفترة متى أتخذ – ذلك التشكيك أو الطعن – مظهر محاربة الفساد والرشوة والمحسوبية.



وهذا هو السبب الذي أضعف موقف حكومة السيد عبد المجيد كعبار، بصورة كبيرة، لأنه هيأ الظروف المناسبة للطعن في نزاهتها ومواقفها وسياساتها، كما أن السيد كعبار من جهة أخرى واعتمادا منه عڵـى تاريخه ومكانته الوطنية وإخلاصه وثقته بنفسه لم يكن يعتبر الخطاب الملكي موجها إليه ولا إڵـى الحكومة الاتحادية بوجه عام، ولهذا فإنه لم يقم بأي عمل ملموس يستجيب أو يتفاعل مع التوجيهات الملكية، بوصفة رئيسا للوزراء ومعنيا مباشرة بما جاء في الخطاب الملكي، فلا هو استقال من الرئاسة، ولا قام بأي إجراء ايجابي يتعلق بما ورد في الخطاب السامي من مسائل جديرة بالدراسة والبحث، وكأن الخطاب غير ذي أهمية.



وكان المتوقع منه  أن يجري وعلى الأقل، تحقيقات موسعة مع المسؤولين  مباشرة عن القضايا  العامة، وعن حالات الفساد والرشوة والمحسوبية المدعى بوجودها وتغلغلها في مختلف مكونات الدولة، لكنه عوضا عن ذلك أذاع بيانا إڵـى الشعب في يوم الثاني من أغسطس 1960 أعلن فيه أن مفاوضات الحكومة الليبية مع حكومة الولايات المتحدة الأمريكية قد وصلت إڵـى تحقيق نتائج إيجابية، إذ التزمت الحكومة الأمريكية بزيادة الدعم المالي المقدم منها لليبيا ليصل إڵـى مبلغ عشرة ملايين جنيه.



وكان هذا المبلغ ضروريا للحكومة لتنفيذ خططها الاجتماعية والاقتصادية، والتغلب عڵـى كثير من الصعوبات اڵـتي تواجهها، لاسيما في قطاع التعليم والصحة.



وكان كثيرون في ذلك الوقت، يعتبرون ذلك انجازا كبيرا ونجاحا باهرا لكعبار، غير أن هذا الانجاز وذلك النجاح لم يشفع له لدى أعضاء مجلس النواب، ولهذا لم يستمر كعبار في رئاسة  الوزارة سوى لمدة شهرين فقط بعد الخطاب السامي، إذ استغلته المعارضة أحسن استغلال وأقدمت عڵـى طلب الاقتراع  بسحب الثقة من حكومته.



ثانيا – طريقة تعامل الحكومة مع المعارضة:



كانت طريقة تعامل الحكومة مع المعارضة البرلمانية فيما يتعلق بالاعتراضات والانتقادات الموجهة لها بسبب طريق فزان، غير فعالة ، بل وغير مقنعة، وهي في هذا الصدد ارتكبت أخطاء جسيمة لم يكن لها داع، إذ كانت الخطوة الأولى في معالجات الحكومة لمواجهة المعارضة  خاطئة ومتسرعة، وذلك عندما قامت بمحاولة إدخال عضوين فاعلين من  المعارضة ضمن التشكيل الوزاري الجديد الذي أعلن عنه السيد عبد المجيد كعبار بعد أن أثيرت المسألة ووجدت طريقها للبرلمان، وبموجبه  تم إسناد وزارة الاقتصاد لعضو مجلس النواب السيد عبد القادر البدرية، ووزارة الصحة للنائب الأستاذ عبد المولى لنقي الذي رفض المشاركة في الحكومة.



ولهذا وقعت الحكومة في خطأ كبير عندما عرضت مناصب وزارية لبعض قادة المعارضة الذين كان لهم دور رئيسي في إثارة المسألة عڵـى النحو الذي سارت إليه، وكان الاعتقاد لديها أن إسناد حقائب وزارية لمتزعمي الحملة البرلمانية ضدها كان كفيلا بانسحابهم من الميدان، ومن ثم سقوط وتلاشي تلك الحملة وزوال مفعولها وكأن شيئا لم يكن.



وكان هذا التصرف من الحكومة ضارا بها أكثر مما هو نافع، فإغراء بعض متزعمي المعارضة بمناصب وزارية لم يكن فعالا ولم يثمر عڵـى نتيجة إيجابية، بل العكس من ذلك هو الصحيح، إذ كان مجرد عرض المناصب الوزارية لمواجهة تأثيرات سياسية معينة دالا عڵـى تورط الحكومة فيما هو منسوب إليها.



ونشير هنا أيضا إڵـى أنها وقد أسندت إحدى الحقائب للأستاذ عبد المولى لنقي الذي سارع بالإعلان عن رفض قبول هذا المنصب،، ووجه خطابا عنيفا يتسم بالحدة لرئيس الوزراء أتهمه فيه بالعبث بالمصالح العامة للدولة.



وما جاء في هذا الخطاب "…… فوجئت يوم أمس بوجود اسمي كوزير للصحة ضمن وزارتكم المعدلة وكما تعلمون فإن سيادتكم لم تأخذوا رأيي في موضوع اشتراكي في هذه الوزارة وفوق ذلك تعلمون أنني قد وقعت مع أعضاء مجلس الأمة العريضة المرفوعة إڵـى المقام السامي بطلب دعوة المجلس إڵـى اجتماع غير عادي لمحاسبة الحكومة عڵـى المخالفة الدستورية اڵـتي ارتكبتها، يضاف إڵـى ذلك ان هذا التعديل قد وقع قبل اجتماع مجلس الأمة مما يدعو إڵـى أن يخيم عڵـى جو الاجتماع سحب قاتمة من الشكوك والمناورات تحجب نور الحقيقة عن كثير من العيون".



ثم اختتم خطابه قائلا "إن ظروف شعبنا تحتم علينا ان نواجه الأمور بصراحة وإخلاص ووضوح وأن نتجنب الطرق الملتوية في العمل للأهداف النبيلة اڵـتي نسعى بإيمان لتحقيقها. من أجل ذلك يؤسفني إبلاغكم عدم قبول الاشتراك في وزارتكم لأنني لست مقتنعا بأن السياسية اڵـتي تنتهجونها في الحكم هي في مصلحة شعبنا".



وقد اعتبرت المعارضة إشراك عضوين من متزعمي الحملة ضد الحكومة في التعديل الوزاري بمثابة نوع من التحايل والالتفاف حول مطالب المعارضة، ومن ثم محاولة لإسكاتها وإجهاض مساعيها في كشف الحقائق والأخطاء المنسوبة للحكومة، ولهذا كان رفض الأستاذ عبد المولى لنقي المشاركة في الحكومة، ضربة أضعفت إڵـى حد كبير موقف كعبار أمام المعارضة البرلمانية، ودافعا قويا لمواصلة السير نحو إسقاط حكومته.



ثالثا: صفة صاحب الشركة المنفذة باعتباره من العائلة المالكة:



أما العامل الثالث الذي كان سببا رئيسيا أدى إڵـى قيام حملة المعارضة البرلمانية ضد حكومة  كعبار، فكان يتمثل في أن مشروع طريق فزان قد رسى عڵـى السيد عبدا لله عابد السنوسي، وهو صاحب الشركة المنفذة، والذي كان ينظر إليه باعتباره فردا ينتمي إڵـى العائلة المالكة، وربما كان ذلك عاملا قويا في إثارة الحملة ضد الحكومة وذلك للنيل منها، وبطريقة غير مباشرة من النيل العائلة المالكة.



ذلك لأنه ومن المؤكد أيضا، أنه لو لم يكن التعاقد مرتبطا بالسيد عبدالله عابد السنوسي، لما نشأت هذه المشكلة من الأساس ، بمعنى أن مشروع فزان لو رسى على  مقاول آخر غير عبدالله عابد، لما حظي بمثل تلك الأهمية  والإثارة  والاهتمام،  بل ولما ترتبت عليه أي آثار أو نتائج!! ولما اهتمت به الصحافة، ولا انشغل به الرأي العام، ولم يكن سببا يؤدي إڵـى استجواب في البرلمان، ولا محاسبة للحكومة ولا حجب للثقة عنها.



كما أن هناك عوامل وأسبابا أخرى تضافرت بطريق الصدفة، وساهمت بالتالي في المساعدة عڵـى تحقق النتيجة اڵـتي انتهى إليها البرلمان، ومن هذه العوامل، ما كانت تتمتع به الصحافة الليبية من حرية واستقلال، إذ كانت الصحافة الليبية هي أول من فجر قضية طريق فزان، وكانت جريدة المساء الطرابلسية هي أول صحيفة تكشف وقائع هذه القضية للرأي العام.



وإذا كان مجلس النواب قد قرر الاقتراع عڵـى سحب الثقة من حكومة السيد عبد المجيد كعبار، وهو ما يعني من الناحية الواقعية سحب الثقة بالفعل من الحكومة،  وقد تم تنفيذ هذا القرار والتزم به الملك، وهذا وذاك أمران يدخلان  في نطاق السلطات الدستورية للبرلمان والملك.



ولكن القرار الذي اتخذه مجلس النواب ونفذته الحكومة، ويقضي:



أولا: انهاء العقد المبرم بين الحكومة وشركة ساسكو بخصوص بناء وتعبيد طريق فزان.



ثاينا: عدم قبول أي عطاء تتقدم به شركة ساسكو في المناقصات الجديدة.



فقد كان محلا للطعن عليه من الشركة المنفذة أمام الدائرة الإدارية بالمحكمة العليا الاتحادية باعتبارها محكمة أول درجة، وذلك بعد اتخذت الحكومة الجديدة اڵـتي ترأسها السيد محمد عثمان الصيد وأعقبت حكومة كعبار، قرارا بتنفيذ مقررات مجلس النواب.



وقد قام وزير المواصلات باتخاذ الإجراءات اللازمة حيال تنفيذ ذلك القرار الذي ينهي العلاقة التعاقدية مع الشركة المنفذة اڵـتي لجأت بدورها  إڵـى القضاء  طالبة إلغاء القرارات اڵـتي اتخذتها الحكومة، وتقضي بانهاء العقد وحرمانه من الدخول في المناقصة الجديدة.



فهل تستجيب المحكمة لهذا الطلب؟



أم أن الإجراءات اڵـتي اتخذها مجلس النواب والحكومة فيما يتعلق بعطاء مشروع طريق فزان، كانت صحيحة ومبررة؟ وهذا ما سنحاول تناوله في الموضع المقبل.



 د. محمود سليمان موسى
علي أبو شنة الغرياني


 


إرسال تعليق

Cookie Consent
نستخدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور، وتذكر تفضيلاتك، وتحسين تجربتك.
Oops!
يبدو أن هناك مشكلة في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت والبدء في التصفح مرة أخرى.
AdBlock Detected!
لقد اكتشفنا أنك تستخدم إضافة حظر الإعلانات في متصفحك.
الإيرادات التي نحصل عليها من الإعلانات تُستخدم لإدارة هذا الموقع، نطلب منك إضافة موقعنا إلى قائمة الاستثناءات في إضافة حظر الإعلانات الخاصة بك.